ARK NETWORK reference.ch · populus.ch    
 
  
CASABLANCA/CHAOUIA:GENOCIDES et RESISTANCE 
 
 
Rubriques

Liens

 Home  | Livre d'Or  | Album-Photo  | Contact

CASABLANCA dans la CHAOUIA : Terre et Homme

 
 
 
مدينــــة 
الدار البيضاء ـ أنفا ـ عبر العصور: 
من التاريخ الصغير إلى الكبير: 
أولا: عواقب التواجد الأجنبي بالدار البيضاء  
خلال القرن (19): 
من خـــــــــــــــلال كتــاب : 
LES EUROPEENS A CASABLANCA au 19°.S.(1856 -1906) 
Par Jean-Louis MIEGE et Eugène HUGUES. 
 
 
 
 
 
 
عرض وترجمة لمقدمة كتاب ج.ل.مييج : 
كما سبقت الإشارة إلى ذلك، فإن هذا النص في نظرنا ارتكازي بشكل فائق، سواء بالنظر إلى ما يقدمه من نموذج تحقيبي أثار العديد من الاعتراضات لكنه لازال يفرض نفسه لدى الدوائر الأكاديمية حتى يصاغ تحقيب بديل له. أو بالنظر إلى كونه يمثل وجهة الاستهداف المفضلة لمختلف الدراسات النقدية التي تبتغي ملاحقة الكتابات الكولونيالية عند تضخيمها للدور الأجنبي في تعمير هذه المدينة. ويظهر مع كامل الأسف أن عددا من الصور المعرفية والذيول المنهجية لهذا الطرح قد استسيغت أكاديميا ولم تعد تثير أدنى رغبة في الانتقاد أو التجريح. وكان الأستاذ علال الخديمي قد تناول في بحث مطول هذه المسألة، ودحض بحجج دامغة كل هذه الافتراءات.  
وعلي كل فإن هناك حاجات أخرى لنشر هذا النص ـ هذا في وقت بدأت الأوساط الأكاديمية تتحسس مدى تقصيرها في إعطاء أكبر مدينة بالمغرب ما تستحقه من عناية واهتمام علميين ـ. تكمن واحدة منها في تقريبه من القارئ المغربي الشاب بحكم أقدمية الكتاب حيث مرت لحد الآن على نشره أكثر من خمسين سنة لم يفقد خلالها الموضوع ثقب إبرة من حيويته وإثارته، فضلا عما يتميز به من إحاطة وتدقيق شاملين حول موضوع توافد الأوروبيين على مدينة الدار البيضاء منذ أواسط القرن الماضي. 
ويتوسع الباحث بإسهاب في تفصيل الكلام حول مختلف مراحل التطور الاقتصادي والعمراني والبشري للمدينة، مع الوقوف عند محطات الانتكاس والتدهور، وتبيان أسبابها ومظاهرها ومخلفاتها، وسيفيدنا استرجاع هذا الموضوع برمته أيضا في الدعوة لإطلاق أعمال التوثيق المركز والهادف للمدينة وأحوازها، ولا يجهل أحد مقدار الفراغ الكبير الذي تعاني منه المدينة و(مجالها الحيوي) في هذا المضمار. ونغتنم الفرصة هنا للإعلان عن قرب نشرنا للجزء الأول لمعلمة وثائقية في الموضوع، تتعلق بقطاع الوثائق المحلية في مجمل مجالاتها الخاصة والمخزنية على السواء.  
وتتضمن هذه المعلمة قدرا كبيرا من المستندات والوثائق حول تاريخها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والديني ومكانتها بين القبائل والمدن الأخرى المنتشرة ببلاد الشاوية. وهي في معظمها غميسة لم يسبق نشرها لحد الآن في أي من المجموعات الوثائقية المطبوعة. أما الأقسام الموالية من كتاب مييج فإنها تركز بالأساس على أصول هؤلاء الأجانب وترصد تركيبتهم البشرية والديمغرافية، مما يجعلها خارج اهتمامنا في الوقت الحاضر، أما فصله الأخير المعنون "الأوروبيون والأهالي" فهو حافل بأنواع من الأفكار التي ضربها الأستاذ الخديمي في مقالته السابقة الذكر .. 
الترجمة الكاملة لمقدمة الكتــاب : 
إن أصول حركة الاستيطان الأوروبي بالمغرب، والمسار الذي أخذه استقرارهم به، لم يكن في أي وقت من الأوقات موضوعا لدراسة شاملة تحصرها من كل جوانبها، ويمكن استثناء بعض الإشارات المقتضبة التي أوردها (كولفن) في بحثه المنشور سنة 1918، حول بدايات التوافد الأوروبي على مدينة الصويرة (موغادور)، وتتميز هذه باعتمادها شهادات شفوية حية على لسان معاصرين لهذه الحركة، لكن تنقصها الدقة، ربما بسبب السرعة التي واكبت عملية جمعها، وهذا ما جعلها لا تخرج عن مستوى اللمحات المتناثرة، تحيلنا إلى مواصلة البحث والتقصي أكثر ما تتضمن وقائع ونتائج نهائية. وعلى كل، فإن تسليط الأضواء على هذا النوع من المواضيع يعود بفوائد كثيرة على مجموع التاريخ المغربي خلال القرن الماضي. 
وهكذا، ففي الوقت الذي لم تتجاوز أعداد المستوطنين الأوروبيين بالمغرب حوالي 500 فرد في حدود سنة 1850م نجدها ترتفع في سنة 1900 إلى ما بين 12 و14 ألف فرد، حسب أدق التقديرات، ويتضح من ذلك أن تسارع هذه الحركة كان ملموسا على الرغم من عدم إمكانية الكلام عن "خلية النحل"، إذ لا يمكن التقليل من شأنها، سيما وأن هذه الجالية صارت تسيطر لوحدها على معظم الرواج التجاري المغربي، وتساهم في الرفع من عدد المنشآت الفلاحية فضلا عما كانت تحضي به من دعم قناصل بلدانها . 
وإذا كانت ملابسات الحياة اليومية لهذه الجالية، واستقرارها المكثف في وسط عرف بمحافظته الشديدة، وحساسيته إزاء التحديث السريع، توفر لوحدها موضوعا بالغ الأهمية أمام الدارسين، فإنها تمكن، بنفس الدرجة من العمق، من تسليط الأضواء على العديد من مظاهر الحياة اليومية المغربية. وفي غياب أية مصادر موثقة عن التاريخ الاقتصادي المغربي خلال القرن (19)، وخاصة الوثائق المخزنية التي لم يتم الإطلاع عليها بعد، فإن أهمية النشاط التجاري للتجار الأوروبيين، واهتمامهم الشديد بمختلف التطورات الاقتصادية، قد ترتب عنه وجود وثائق ومستندات، تمثل مصادر لا غنى عنها أمام الباحثين .  
في أوج اشتداد التنافس السياسي ما بين الدول العظمى ، عند نهاية القرن19 حول ما سمي "بالأزمة المغربية"، أصبحت قضية المستوطنين الأوروبيين حجة في يد أقطاب السلك الدبلوماسي، ولم يكن هناك أحد من رجالاته لا يثير في تدخلاته أعداد مواطنيه بالمغرب، أو اتساع نفوذهم وقدم تواجدهم، وذلك من أجل تعميد ادعاءاتهم، و إضفاء المشروعية على مطالبهم. 
وبفعل التوظيف السياسي المكثف لهذه القضية، صارت الأرقام والمعطيات المقدمة، مثار الكثير من الشكوك والتساؤلات، وينسحب ذلك أيضا على المعاني والمفاهيم غير المحددة التي أعطيت لمصطلحات "الوطنيين" أو"المستوطنين". فهل كان الأمر يتعلق فقط بالأوروبيين، أم بكافة المحميين والمتجنسين؟ سيما وأن الأمثلة كثيرة ومتنوعة، ويطغى على تضخيم بعضها طابع الإصرار والترصد . 
ففي مدينة الصويرة وحدها، تقدم لنا إحصائيات القنصلية البريطانية 114 إنجليزيا سنة 1891، ولكن ليس منهم في الواقع إلا 45 مسيحيا، أما 69 الباقون فكلهم يهود، بل أن مجموعة 45 فردا الأولى، كانت تتضمن أعدادا من مواطني جبل طارق، وآخرين من الأسبان المتجنسين. ويقال نفس الشيء بالنسبة لمدينة العرائش سنة 1886، إذ لم يكن واضحا هل تدخل في حظيرة التسعين فردا الواردة في سجلات قنصلياتهم أعداد المحميين التسعين المعلنة. وبالنسبة للفرنسيين، فإن الإحصائيات المتوفرة كانت تشمل الجزائريين من يهود ومسلمين فضلا عن محمييهم من المغاربة. 
وهكذا فإنه لا يمكن التعامل إلا بحذر واحتياط شديدين مع الأرقام المقدمة من طرف أدق المصادر المعتمدة، وخاصة منها السجلات القنصلية، وعن ذلك مثلا، نجد أن من بين الأربعين اسبانيا المعلن عن تواجدهم بمدينة الجديدة، لا تضم السجلات إلا عشرين من أسمائهم إن عدم دقة الأرقام المقدمة وتضاربها طبقا لتنوع المصادر وتعددها، ليحد من إمكانية اعتمادها بشكل مباشر، ويتضح لنا أن هذه الجاليات الأوروبية المستقرة بالمغرب، لم تكن في الواقع بالضخامة والتنوع الذي كنا نأمل تسليط الأضواء عليها بحثا وتمحيصا، فضلا عن ندرة وتشتت المصادر والوثائق اللازمة لمثل هذا العمل، إلا أن الرغبة في الخروج بلوائح مدققة عن عناصرها وأعدادها طوال الفترة الواقعة ما بين سنتي 1856 و 1906، دفعتنا إلى تقسيمهم حسب مدن استقرارهم، أو جنسياتهم وأصولهم الجغرافية ببلدانهم، وكذا حسب أنماط نشاطهم.  
لقد اخترنا سنة 1856، لتكون بداية الحقبة التي نريد دراستها، وقد تم خلالها توقيع المعاهدة الإنجليزية ـ المغربية (دجنبر 1856) ، التي فتحت المغرب على مصراعيه أمام الشركات التجارية المركنتيلية الأوروبية، كما تم خلالها تشكيل دواليب الأجهزة القنصلية الإنجليزية ثم الإسبانية ثم الفرنسية. وتعد أرشيفاتها المصدر الأساس عن كل هذه المرحلة، على الرغم مما تعانيه من فراغات ومن ضعف مصداقيتها، فضلا عن صعوبة الوصول إليها. كما اخترنا سنة 1906 لإغلاق هذه الحقبة، وتأتي أهميتها من كونها تؤشر لنهاية التواجد الأجنبي بالمغرب بأشكاله الاعتيادية، حيث أدى التدخل العسكري الفرنسي سنة 1907، ومجيء أعداد هائلة من المستوطنين في ركابه إلى إحداث تغييرات جذرية في معطيات هذه القضية. 
ركزنا تحرياتنا على المدن الثمانية الأكثر انفتاحا على التجارة الخارجية، فضلا عن مدينتي فاس ومراكش، وسمح لنا ذلك بالخلوص إلى دراسة تركيبية يمكن أن تفضي بدورها إلى دراسة شاملة موسعة تنطبق على مجموع التاريخ المغربي في القرن الماضي. ونبدأ هنا بعرض ما تجمع لدينا من إفادات حول مدينة الدار البيضاء نظرا لأهميته البالغة . 
وإن من مظاهر خصوصية هذه المدينة، كون الازدهار السريع لعصرنتها يلقي إلى غياهب النسيان كل تصور عن بداياتها المتعثرة، لدرجة يتحتم علينا معها عزل حالتين في سياق نموها المستمر، حالة الدار البيضاء المعاصرة التي انبثقت من العدم، وحالة الدار البيضاء الأمس التي لم تكن إلا مجرد قرية صغيرة غير ذات أهمية. وما بين هذه وتلك، تصطف مجموعة من الروابط والجذور التي تشد المدينة العصرية إلى بداياتها خلال القرن التاسع عشر. وتحيلنا هذه بدورها إلى اكتشاف الجوانب المشوقة في ولادة مدينة مدعوة إلى النمو السريع. 
فما هي الأدوار التي ستلعبها الجاليات الأوروبية في هذه الولادة بمعية الأطراف الوطنية، وما هي العوائق التي ستعترض هذه النشأة، وعبر أية محطات من الجهد أو الانتكاس ثم معاودة النهوض ستمكن من قهر هذه العراقيل، سواء منها تلك الناجمة عن مجاورتها لساحل غير مضياف، أو عن انغلاق خلفيتها القارية، أو المترتبة عن إدارة متشككة لا تكف عن وضع كل ما تستطيع من حواجز، وهو ما سنحاول إثارته من خلال معالجة موضوع التعمير الأوروبي . 
اعتمدنا في توثيق عملنا على أرشيف البعثة الفرانسيسكانية ، وذلك بتوصية من الأب ر.ب. ريكاردو سكانو، رئيس هذه البعثة بالدار البيضاء، وهو فضل لا نستوفيه حقه مهما قدمنا إليه من تشكرات، واطلعنا عبره على مختلف السجلات التي تركها الرهبان الفرانسيسكان الذين استقروا بالمدينة سنة 1862 . 
وهناك أيضا اللوائح السنوية بأسماء الرهبان من رجالات البعثة، لكن هذين المصدرين تعتور هما بعض الفراغات منها غياب لوائح الرهبان عن سنوات 1884 و1889و1894 بالإضافة إلى عدم اكتمال لوائح سنة1900. كما تخون الدقة الكثير من المصادر الأخرى، ومن ذلك مثلا احتواء سجلات الولادة أو الوفيات أو الزواج أسماء لا نجد لها رسما ي اللوائح الأصلية. وقد تطلب منا ضبطها بدل مجهودات ضخمة استغرقت مدة طويلة وشاقة، حيث قمنا بتتميمها عبر مقابلتها بلوائح بعثات كل من طنجة والجديدة وآسفي والصويرة.  
اعتمدنا كذلك، وثائق أرشيف الغرفة التجارية لمرسيليا، رغم ما نال ربائد الفترة المعاصرة من ضرر خلال العمليات الحربية سنة 1944. وقد أفادتنا كثيرا في مجالات الحياة الاقتصادية. حيث أمدنا كل من السيد والسيدة راينود والسيد ريبوفا بكامل العناية اللازمة خلال مدة إقامتنا هناك، وإليهما نتقدم بأحر تقديراتنا. 
واستعملنا أيضا أرشيف إدارة الحماية بالرباط، حيث لم يبخل علينا المحافظ السيد ريش بمساندته المشكورة، أما وثائق قنصلية الدار البيضاء، التي توجد الآن رهن التبويب، فإننا لم نستطع استعمالها، وقد تبين لنا، حسب إشارة السيد بيسون، أنها لا يمكن أن تفيدنا بشيء ذي أهمية في هذا الموضوع. وكان السيد طيراس قد أولى هذا العمل منذ بدايته كامل الدعم والعناية، سواء فيما يتعلق بتمكيننا من الإطلاع على معظم المصادر المطبوعة فرنسية كانت أم أجنبية، أو عندما تعلق الأمر بطبع هذا البحث . 
وعلى كل، فإنه على الرغم من تنوع مصادرنا، وتعدد مبادرات الدعم والمساندة، إلا أننا ما كنا نستطيع إنجاز هذا العمل، لولا المساعدة المباشرة من طرف المنحدرين من أسرنا البيضاوية القديمة، حيث فتحوا لنا أرشيفا تهم الخاصة، ولم يظهروا أي تبرم أو تقاعس خلال الإجابة عن أسئلتنا، وتدقيق تفاصيل معطياتنا وتصحيح بعض أخطائنا حولها. ونود من خلال هذا العم، التعبير لهم عن كامل امتـناننا، إذ بدون مساندتهم ما كان له أن يرى النور وخاصة السيد والسيدة فريوه، ونوفيلا، ودي فرايطاس، وسميت، وورتينغتون، والسيدة رويز أورساتي، وأطالايا .  
 
 
تطور الساكنة الأوروبية بالدار البيضاء. 
منذ انفتاحها على التجارة الأوروبية سنة 1830، وإلى حدود 1850، لم يعرف وجه مدينة الدار البيضاء أية تغييرات تذكر، ويعود ذلك من دون شك إلى النمو البطيء في حجم هذه المبادلات، حيث تؤكد المعلومات القليلة المتوفرة، أن قيمتها لم تتجاوز سقف 500 ألف إلى مليون فرنك. 
وبدورها فإن أوصاف الرحالة لم ترفعها عن مستوى تجمع قروي صغير، تطغى عليه المظاهر القروية على حساب المظاهر الحضرية. وإلى جانب أسوارها وتحصيناتها الخربة، فإن عدد منازلها المبنية بالحجارة لم يكن يتجاوز نصف الدزينة، وهناك إلى جانبها ما يزيد عن 150 إلى 200 كوخ (نوالة)، يقطنها حوالي 1000 نسمة أغلبهم من الصيادين ورجال المخزن، و(...)وبعض الحرفيين الفقراء. أما ميناءها فيعد هو الأصغر بالمقارنة مع الموانئ الأخرى المنتشرة ما بين طنجة والصويرة، تنضاف إليها حياة اقتصادية بسيطة، لم يعمل القرار المخزني القاضي بإغلاقها أمام الحركة التجارية إلا على إلقاءها في غياهب النسيان، تماما كما حدث بالنسبة لمدينة أكادير في القرن الماضي. 
وبالرغم من موقعها الهام في منتصف الطريق ما بين العاصمتين التاريخيتين للبلاد، وانفتاحها على سهول الشاوية الغنية، وقربها من مدينتي الرباط والجديدة، إلا أن ميناءها الصغير لم يكن يستقبل إلا عددا تافها من المراكب وفي أدقع الضر وف، فضلا على أن واجهتها البحرية الممتدة ما بين صخور عكاشة ورأس العنق، لا تشكل الملجئ المطلوب نظرا لتعرضها للرياح الهوجاء.  
وطوال المدة الواقعة ما بين سنتي (1830 و1850) لم يكن أحد يتصور ما ستؤول إليه هذه المدينة، إلا أنه ابتداء من سنة(1850) بدأ الملاحظون يؤمنون بقرب انبلاج فجر ازدهارها، حيث تؤرخ السنوات الواقعة ما بين (1840و1858) لحدث بالغ الأهمية في حياة هذه المدينة، ألا وهو استقرار أول الشركات الأوروبية بها. ويبدو من هذا مدى أهمية العامل الخارجي المتمثل في التجارة الأوروبية، حيث كان هو الذي أعطى لهذه المدينة طابعها المميز على هامش المغرب التقليدي، لتكون هي الشاهد على مدى حيوية هذا النشاط. 
 
الأوروبيون الأوائل بمدينة الدار البيضاء : 
ضلت البدايات الأولى للتغلغل الأوروبي باهتة ومحدودة، وكانت أول مؤسسة بالحجم المعتبر هي التي أنشأها التاجر ج.ب.م.راي من طنجة، وهو من أصل قبرصي، استقر أول أمره في طنجة وصار يراقب بفضل حنكته وبراعته الجزء الأكبر من المبادلات الفرنسية ـ المغربية مما أهله إلى انتزاع حق التملك في بقعة أرضية بمدينة الدار البيضاء، فضلا عن منزل في حالة خربة، لكنه أعاد بناءه وتوسيعه واتخذ منه محلا تجاريا لعرض بضاعته . 
ومن أجل الإشراف على هذه المنشأة، استقدم من منطقة(هيرولت) كلا من بروسبير وجوزيف فيريو وهما من مدينة (كليرمونت الهيرولت)، وكانا على علاقة مع بعض الأسر القديمة المشتغلة بصناعة الزرابي، بل أن بيير فيريو، أب الأول وعم الثاني، كان أحد رجال راي، واستقدمه سنة 1839، كما اشتغل لمدة طويلة عميلا لقنصليتي إنجلترا وفرنسا، ويعتبر الأوروبي الوحيد الذي كان مستقرا بمدينة الدار البيضاء بشكل شبه دائم، رغم أن تجارة الصوف كثيرا ما كانت تحتم عليه السفر إلى الجديدة أو الرباط.  
أمام النجاح المشجع لهذه المحاولات، والارتفاع المتزايد لأثمان الصوف بأوروبا، بادرت اثنتان من الشركات الكبرى إلي إرسال عملاءها للمغرب قصد إنشاء فروع مؤقتة، وهكذا أوفدت مؤسسة البارون سيليبر منذ سنة 1847 عميلها روكايرول الذي جاء إلى الدار البيضاء بتوصية الاستقرار بها وتوسيع قواعد العلاقات التجارية مع المغرب. وفي سنة 1852، تكتلت معامل(مانيفاكتورات) لوديف في مؤسسة واحدة للمشتريات تحمل إسم (الشركة الفرنسية للوديف)، مستهدفة من وراء ذلك التحرر من السوق الإنجليزية، حيث بادرت إلى توسيع فروعها نحو العرائش والرباط والدار البيضاء، وقد مثلها في هذه الأخيرة كل من مينار وفولكيي المنحدرين من أسر قديمة بمنطقة الهيرولت . 
وخلال السنوات الموالية، كان مجموع الأجانب المستقرين بالدار البيضاء ينتمون إلى جنسية فرنسية، وبالضبط من منطقة لوديف أو المناطق المجاورة، ثم التحق بهم بعض موظفي مؤسسة باستري لمرسيليا ما بين سنتي 1855و1856، وكانت أعمالها منصبة على شراء الحبوب من أجل تموين الجيوش الفرنسية المحاربة في منطقة القرم. 
اجتذبت هذه الأنشطة التجارية التي انضافت إليها بعض الدور الإنجليزية، مجموعات متزايدة من المستوطنين الأوروبيين رغم ضآلة أعدادهم، وابتداء من 1856، أي بعد توقيع المعاهدة الإنجليزيةـ المغربية، صار بها حوالي 12 فرنسيا، وإسبانيان، وإنجليزيان وإيطالي واحد . 
وفي سنة 1857، وقع أول تحول كبير في مكانة الدار البيضاء، رفعها إلى مستوي كبريات المدن التجارية الهامة، وسيتمثل في اتخاذها مقرا لممثل القنصل التجاري الأوروبي السيد وول دريج ابتداء من شهر سبتمبر. بل أن توقيع المعاهدة الإنجليزيةـ المغربية كان بمثابة الحافز لآمال السماسرة الذين رأوا فيها "ولادة جديدة للرواج التجاري بهذه المدينة " . 
وقد ساهم في توسع فرص ازدهارها، تواكب سنوات فلاحية جيدة ، فضلا عن التحاق السفن ذات الدفع البخاري بحركة الرواج البحري بعد انتهاء حرب القرم التي كانت تستقطب معظمها. وفي فبراير 1858، كتب بومين في هذا الصدد (.. بعد أربع سنوات فقط من التحولات الرائعة، تغيرت حالة هذه المدينة المغربية من ركام الخرائب والردم إلى حاضرة جميلة ذات جدران بيضاء وأزقة وشوارع جديدة تصطف حولها البنايات) ويضيف قائلا:( لم يكن هناك أحد من التجار الأوروبيين أو المغاربة لم ينشئ لنفسه مسكنا أو محلا تجاريا، بل شمل ذلك أيضا فئات العمال والمستخدمين والحمالين، حتى صار كل واحد يتوفر على مسكن خاص من البناء الحجري )، وبهذا تشكلت النواة الأولى للجالية الأوروبية . 
 
البدايات الصعبة: 
لم يكتب لهذه المبادرات الإيجابيات أن تدوم لفترة أطول، نظرا لأن انفتاح البلاد على المؤسسات الأوروبية كان يتم رغما على إرادة الحكومة المغربية، ولم تتوقف هذه عن خلق كل ما من شأنه أن يعرقل العمليات التجارية.  
وفي سنة 1858، أدى تحريم تصدير الصوف إلى إشاعة السأم في صفوف الجالية الأوروبية، ولم يتم إلغاءه إلا في سنة 1860، لكن لمدة سنة واحدة فقط. وعلى الرغم من قابليتها للتجديد، إلا أن حضور إمكانية العودة إلى المنع، كانت تضع التجار في موقف لا يحمسهم للاندفاع نحو الاستثمار في قطاع تربية المواشي. وفيما بين سنتي 1859و1860، أدت حدة التوتر ما بين إسبانيا والمغرب إلى تسخين الأجواء في منطقة الشاوية، وترتب عن تحرك القبائل، تزايد المصادمات أسبوعيا، لدرجة صارت تحتم على العائلات الأوروبية بالبيضاء مغادرة المغرب لولا أهمية المصالح القائمة. وقد كتب القائم بالأعمال القنصلية الفرنسي قائلا: " نحن الآن محاطون بكل المخاطر ولكن الأوضاع لم تصل إلى الحد الذي يجعلنا نقرر المغادرة والتضحية بكل مصالحنا."  
وخلال السنوات الموالية، لم يظهر أي تحسن في الوضع، حيث انضافت إلى وباء الكوليرا في خريف 1860، مبادرة الحكومة المغربية إلى الرفع من الرسوم الجمركية بشكل تعسفي، كما زاد توتر الأوضاع في الشاوية بسبب تحركات زناته ومديونة ما بين سنتي 1863 و1865، ونتج عن تهور السياسة الجمركية للسلطان إعاقة الازدهار بالمدينة، والحد من تدفق الأوروبيين عليها، لدرجة أن أعدادهم ارتفعت من عشرين فردا إلى الستين ما بين سنتي1857 و1867 ، أي بمعدل أربعة كل سنة . 
وفي سنة 1868، عاد وباء الكوليرا للظهور من جديد، وحصد العديد من أعضاء الجالية الأوروبية الصغيرة حيث ضاع منهم ستة أفراد خلال بضعة أسابيع( ما بين يونيو إلى يوليوز 1868). وكالمعتاد فإن هذا الوباء الذي جاء تتويجا لثلاث سنوات من الجفاف والمحاصيل السيئة، أصبح يحد من إمكانية توسيع السوق، بل أصبح سببا مباشرا في دفع الناس إلى العودة من حيث أتوا. ورغم محدودة عدد العائدين، إلا أ، القنصل البلجيكي كتب في مبالغة واضحة كعادته: " غادرت الغالبية العظمى من الوكلاء التجاريين أعمالهم وامتطوا أول سفينة أقلتهم إلى مرسيليا ". 
طوال هذه الفترة ضل العنصر الفرنسي هو المهيمن، رغم توافد العديد من مواطني جبل طارق، حيث فتحت سنة 1866 نيابة قنصلية جديدة لتعويض الوكالة القنصلية السابقة التي كان يسيرها التاجر فيريه، وهو ما ضل يؤشر على المكانة التي ارتقـت إليها هذه المدينة، وكان القنصل العام لسردينيا في طنجة قد أكد سنة 1862 على التفوق الفرنسي، لدرجة أن خمسة من ثمانية دور تجارية بالمدينة كانت من أصل فرنسي، وواحدة إنجليزية واثنتان إيطاليتان، وكانت هذه الأخيرة واقعة تحت هيمنة العنصر اليهودي أو تابعة لدور تجارية أخرى مستقرة بالجديدة . 
ويظهر أن الأوضاع ضلت على حالها طوال السنوات الست الموالية، حيث كتب بوميي في هذا الصدد قبل بضعة أشهر من اندلاع وباء الكوليرا قائلا: " إن معظم المؤسسات الفرنسية ماثلة الآن هنا، وقد تمكن كل مواطنينا المستقرين بالدار البيضاء مع عائلاتهم من توسيع ممتلكاتهم، وإليهم أساسا يعود الفضل الأكبر في التطور والازدهار السريعين لهذه المدينة التي لم تكن قبل سنة 1854 سوى ركاما من الخرائب، لدرجة أن ساكنتها تضاعفت خمس مرات خلال عشر سنوات . 
وفي سنة 1868، كان الفرنسيون يمثلون 35 في المائة من مجموع الساكنة الأوروبية بالدار البيضاء، ويجمعون بين أيديهم مقاليد الجزء الأكبر من حركتها التجارية، بينما لم يكن للأسبان إلا نفوذ تجاري ضعيف رغم تفوق أعدادهم. وهناك أيضا 25#1605;ن إنجلترا وجبل طارق, وأربعة من إيطاليا .  
 
 
الازدهار السريع ما بين 1869 و 1877. 
ظهر جليا من التزايد السكاني السريع الذي عرفته المدينة خلال سنوات (1869و1878) أنها تشهد ولادة جديدة، ولم يكن لحرب 1870، أي انعكاس على الجالية الفرنسية، كما لم يتخلف عن الاضطرابات التي واكبت تنصيب السلطان الجديد سنة 1873أي إخلال بموازين الاستقرار، وقد تزامنت دورة السنوات الفلاحية المعطاء مع مرحلة الازدهار الأوروبي الكبير لدرجة أنه صار من الممكن تصريف المنتجات الوفيرة الآتية من نواحي الدار البيضاء بأثمان مرتفعة في أسواق لندن ومرسيليا. كما ترتب عن صدور الترخيص بتصدير الحبوب سنة 1871، وتجديده سنتي 1873و1875، تسريع الازدهار، واستمرار توافد التجار الأوروبيين سنة بعد سنة. 
وما من شك، فإن العديد من هذه التيارات، كانت ناجمة عن مخلفات الأحداث السياسية بأسبانيا كما تدل على ذلك الوثائق الخاصة بالحركة التجارية بطنجة، حيث أدى فشل الحركة الجمهورية، ثم الانقلاب العسكري الذي قاده الجنرال م. كامبوس من أجل إعادة تثبيت النظام الملكي(1873و1874) إلى تكثيف الهجرة السياسية التي شملت عددا من مواطني الجنوب الإسباني.  
ويتضح أن تزايد الساكنة الأوروبية بالدار البيضاء، كان ناتجا عن تداخل عدة عوامل، حيث تضاعفت هذه ثلاث مرات لتصل أعدادها إلى 251 نسمة سنة 1878 وذلك بمعدل 15 فردا كل سنة، أي حوالي أربع مرات عما كانت عليه خلال العشرية السالفة ويلاحظ أن هذه الزيادة كانت تشمل بالدرجة الأولى العنصر الإسباني الذي تضاعف 15 مرة(114 فردا) أما جديد المسألة فيتمثل في توافد مستوطنين ألمان للاستقرار بالمدينة، وقد أنشئوا أول مؤسساتهم سنة 1877، وذلك بمبادرة الأخوين كارل وهنري فيك، ثم تلاهما بعد بضعة أشهر تكوين مؤسسة نيومان. 
عرفت هذه الفترة عودة المراكز الألمانية للاتجار مع المغرب، وخاصة مدينة هامبورغ التي كانت في أوج نموها، وبريم التي تخصصت طويلا في المبادلات مع أفريقيا، وكذا ميناء ستيتن، لكن العنصر الفرنسي ضل من الناحية الاقتصادية هو الأكثر أهمية والأقوى مبادرة، إذ تراوحت نسبة هيمنته على التجارة الخارجية للمدينة ما بين 50 و60 في المائة تبعا للسنوات. وكانت كل التقارير تؤشر على ذلك، حيث كتب نائب القنصل الفرنسي سنة 1874 مؤكدا:"..وهكذا اندفعت الدور التجارية لمرسيليا نحو تأسيس وكالات جديدة بالدار البيضاء حينما لم تعد المخازن السابقة كافية للإيفاء بمستلزمات الاتجار.." وأكد أيضا في سنة1875 "..من بين كل مراسي الساحل المغربي، تعد الدار البيضاء هي الأسرع تطورا والأكثر ازدهارا، ولا يغيب عن البال أن هذه النتائج، إنما تعود بصفة كاملة إلى الدفعة القوية التي أولتها الجالية الفرنسية لمختلف المعاملات..". 
ضلت الجالية الإسبانية هي الأوفر عددا حتى وقع الإنزال العسكري سنة 1907، وكانت تمثل حوالي 50 بالمائة من مجموع الجالية الأوروبية منذ سنة 1878، وذلك مقابل 16 في المائة للفرنسيين، أما الإنجليز ومواطنو جبل طارق الذين تضاعف عددهم ثلاث مرات سنة 1868 فكانوا يمثلون 25 بالمائة، بينما لم يتجاوز عدد أفراد الجالية الإيطالية، وهم القلة، حوالي العشرة. ولا تنقص الشواهد والأدلة حول تزايد أعداد الجالية الأوروبية وتطور أعمالها، حيث يجب التأكيد على دورها الحيوي في هذه المدينة وقد كتب نائب القنصل الفرنسي سنة 1876 مؤكدا: "..إن ازدهار هذه المدينة ناتج بصفة أساسية عن تزايد أعداد سكانها، وكذا عن المجهودات المبذولة في مجالات التعمير. وهناك حاليا أكثر من ثلاثين منشأة واسعة قد تم الانتهاء من بنائها أو هي في طورالإنجاز. وكان المخزن هو الذي وهب الأرض للتجار الأوروبيين.."، وبعد بضعة أشهر من ذلك كتب أحد التجار:"..إن الدار البيضاء سائرة لكي تصبح هي المدينة التجارية الأولى بالمغرب.." 
وهكذا فإن زيارة المولى الحسن للمدينة سنة 1876، وما أفضت إليه أوامره من إنشاءات ومباني بالميناء، فضلا عن استمرار تدفق تجار جدد، وإنشاء خط بحري جديد، قد ساهمت كلها في رسم معالم مستقبل زاهر لهذه المدينة. 
 
 
أزمـة 1878 ـ 1886 : 
في خضم هذا الازدهار، حدث انهيار مفاجئ، لم يعمل إلا على ترسيخ الركود لآماد طويلة، وكانت بعض المخاوف قد لاحت منذ سنة 1878، حيث اتجهت أسعار المواد الفلاحية إلى الانخفاض في الأسواق الأوروبية، وتعالت معها صيحات المطالبة بتطبيق الإجراءات الحمائية. 
أما في الدار البيضاء، حيث شحت الأمطار، فإن ملامح الفقر أخذت في الانتشار ابتداء من شهر مارس، وألقت أخبار مرض السلطان الجمود في ميدان الأعمال، لدرجة أن الحركة التجارية توقفت نهائيا في الملاح بسبب ما أثارته من مخاوف. وفضلا عن كل ذلك فقد بدأ الإعلان منذ السابع من سبتمبر عن الوفيات الأولى في صفوف المسلمين من جراء مرض الكوليرا ، وخاصة في أوساط " الطبقات الفقيرة التي انحدرت إلى أسوء الأحوال بسبب المجاعة " وكان هذا الوباء قد انتشر طوال شهري سبتمبر وأكتوبر، لكن توقفه في فصل الشتاء لم يمنع من انتقال أعراض الحمى، وقد امتلأت بذكرها العديد من المراسلات خلال ربيع 1879م، وصارت تصفها ب الحمى المرضية أو الحمى الحادة أو الحمى……. 
وكان أن فقدت الساكنة المسلمة، وهي الأكثر تضررا 12.5 {من أعدادها خلال شهرين، أما الساكنة الأوروبية فإن الإصابات كانت مرتفعة جدا، حيث سجلت ما بين شهري سبتمبر ونونبر ثمان حالات وفاة انضافت إليها ثمان حالات أخرى ما بين شهري يناير وأبريل سنة 1879م وفي المجموع فقد سجلت ستة عشر حالة وفاة خلال سبعة أشهر أي حوالي 7{ من مجموع الساكنة وهو ضعف معدل الوفيات العادي المسجل في سنة كاملة. 
غادرت مجموعة كبيرة من الناجين هذه المدينة التي لم تكن تتوفر على أي طبيب، وتوجهوا نحو طنجة وإسبانيا.وتشير مراسلات سنة 1879م أن هذا الخراب الكبير لم يعرف له مثيل من قبل، بل أن بلاد الشاوية تعرضت خلال سنوات 1878و1879 لواحدة من أكبر مصائبها خلال النصف قرن المنصرم حيث توقف تزويد المدينة بأحمال الحبوب التي اعتاد الفلاحون جلبها لأسواقها من مخازن غلالهم( المطامير خلال سنوات الازدهار، وذلك من أجل تأمين حاجاتهم الخاصة. كما تجاوزت أثمان القمح الرائج في الأسواق كل المعدلات المسجلة خلال سنوات الخصاص 1850 أو 1860 إذ ارتفعت هذه بنسبة 600{ وتجاوزت بالنسبة للشعير700{. وبدورها فإن الواردات قد تقلصت بسبب غياب الاستعداد لدى الأهالي الذين أنفقوا كل مدخراتهم وباع الكثيرون منهم حليهم (بلغت قيمة صادراتها 300 ألف فرنك ) ليصبحوا مجرد متسولين، كما فقد التجار الأوروبيون كل حافز مستقبلي إزاء سوق ظهرت علامات انهياره لمدة طويلة، حيث تراجعت حركة الرواج التجاري إلى أدنى ما كانت عليه قبل عشرين سنة، مما زاد في تعميق الأزمة؛ وصار غياب الرساميل بالبلاد يحد من أية إمكانية للنهوض؛ وتباطأت إمكانية الزيادة في المساحات المزروعة، بينما ارتفعت حالات الوفاة في قطاع الأبقار لدرجة صار معها شائعا لجوء الرجال والنساء إلى جر أدوات الحرث بأنفسهم. وهكذا تزايدت حدة الأزمة ، وتميزت سنوات 1880و81و 82 و83 بتدني الحركة التجارية، بينما أدى نقص المحاصيل إلى إشاعة الاضطرابات مما ترتب عنه لجوء أعداد كبيرة من أهالي الشاوية سنة 1884 إلى دخول الخدمة العسكرية في الجيش السلطاني. 
فقد التجار الأوروبيون تدريجيا كل الآمال في انتعاش السوق> 
 
النمو السريع ما بين سنتي 1887 و 1894م. 
انطلاقا من سنة 1887، انخرطت المدينة في دورة جديدة وسريعة من الازدهار الاقتصادي، ويظهر أنه بالقدر الذي كانت الفترة السابقة الممتدة ما بين سنتي 1878 و 1887م، سوداء قاتمة بالنسبة لساكنة المدينة، إلا أنها شكلت، في واقع الأمر، محطة بالغة الأهمية في تاريخ انطلاقتها التجارية. بل أنه على الرغم مما كان يغلف السوق من صعوبات ومتاعب، إلا أن عوامل أخرى برزت مجددا، ولو بشكل محتشم، صارت تدفع بتبات، نحو تحسين شروط التبادل. وتتمثل هذه في دخول مكاتب الخدمات البريدية لأول مرة، وحصول انضباط ملموس في خطوط النقل البحري مع ارتفاع حركتها. بالإضافة إلى إنشاء خدمات التلغراف بمدينة طنجة. وقد أصبح كل ذلك يصب في اتجاه تسهيل الاتصال مع العالم الأوروبي. وبالتالي يزيد من فرص انفتاح السوق المغربي. 
ونسجل كذلك، أن ميناء المدينة، كان قد عرف بدوره عدة تغييرات في هذا الاتجاه، حيث تم اقتناء عدة ألآت حديدية للجر، وتم تركيب برج فنار صغير. وهي كلها أدلة صارخة على ما يمكن أن يتحقق بفعل الصلابة المركنتيلية الأوروبية، وما يمكن أن تجنيه من نجاحات وفوائد باهرة. وبدورها، فإن الاتفاقية المغربية الألمانية قد أضافت إلى هذه الأدوات التبادلية الفعالة، أشياء لا تنحصر في مجرد الوعود والأقوال، حيث حررت، ولمد ثلاث سنوات كاملة، تصدير القمح والشعير. واعتبر ذلك مكسبا بالغ الأهمية للحركة التجارية بمدينة الدار البيضاء. حيث كانت تجارة الحبوب تمثل على الدوام حصة الأسد في مجمل صادراتها. 
وكانت كل الظروف، تسير في اتجاه جعل سنوات 1890، هي الأكثر ازدهارا بهذه المدينة طوال هذا القرن، حيث كانت تسعى لكي تصبح هي القاعدة التجارية الأولى في البلاد. وعلى كل، فإن هذا الانتشار والتطور، كثيرا ما كان يثير اندهاش عدد من المتتبعين، حيث يعبر عن ذلك التاجر الألماني شلومبيرجير بقوله: (..قليلا ما كان الميناء يبقى فارغا من دون أن تدخله سفن أجنبية، بل القاعدة هي أن تكون بداخله أربع أو خمس سفن تجارية، وليس نادرا أن يرتفع هذا العدد إلى 10 أو 15 سفينة. وكان هناك أكثر من 20 مؤسسة أو فرعا لأكبر الشركات التجارية الأوروبية...) 
في هذه الفترة، لم يعد الرواج التجاري المتنامي يجتذب إليه التجار وحدهم، بل صارت تتلاحق بهم أفواج أخرى من الأمناء والموظفين والحرفيين. كما بدأت تصل المدينة الطلائع الأولى من البروليتاريا الإسبانية التي كانت آنذاك تتدفق على مدينة طنجة. وعلى النقيض من ذلك، فإن عددا من المدن الساحلية، حتى المتوفرة منها على موانئ، وخاصة العرائش والرباط وتطوان.. لم تعرف مثل هذا الرواج والمنافسة التجاريين، ولذلك فإن أعدادا متزايدة من تجارها وسماسرتها، كانت تأتي للاستقرار بالدار البيضاء، ومن أشهره هذه العائلات: آل مامارك، وبوكلير، وآل الكريسبو... 
وهكذا، صار باديا أن أعداد أفراد الجاليات الأوروبية قد تزايد ت في هذه الفترة بمدينة الدار البيضاء، بشكل لم يسبق له مثيل طوال هذا القرن، بل حتى بالنسبة للفترة الواقعة ما بين سنتي 18721 و 1878. فمن 205 ساكن أوروبي سنة 1887، انتقل العدد إلى 230 فردا سنة 1888، ثم ارتفع إلى 260 سنة 1889. وهو تطور استمر عاديا إلى أن حدثت قفزة 1890، حيث انتقل هذا العدد من 308 إلى 350 ثم إلى 392 فردا ما بين سنتي 1890 و1892 ليبلغ في سنة 1893 428 فردا. ويدل كل ذلك على أن الساكنة الأوروبية بالمدينة، قد تضاعفت أعدادها خلا ست سنوات فقط.  
ما من شك، فإن هذه الأرقام كانت تبدو في واقع الأمر جد متواضعة حيث لا يبعث على الارتياح اقتصار الزيادة السنوية على 35 إلى 40 فردا. لكن الأمور من زاوية أخرى كانت تبدو غير ذلك، حيث كان مجيء ثلاثة أو أربعة أوروبيين إلى المدينة كل شهر يزيد من ترسيخ قوة الأعمال وبالتالي يبعث أمالا متجددة. 
كما لم يكن يغيب عن الأذهان ما كانت تطرحه مسألة إيوائهم من مشاكل سكنية بالغة الحدة، حيث كان الارتفاع المستمر في أثمان كلفة الكراء يدفع التجار إلى المزيد من الاحتجاج على ما كانت تتعرض له الأراضي المسلمة لهم من اقتصاص واحتلال. وبالجملة، فإن أفراد الأسر الأوروبية قديمة الاستقرار، كانوا يتابعون باستغراب مدى سرعة هذا التحول واستمرار يته، حيث صارت تتلاشى أمام أعينهم بالتدريج تلك الصورة التي عرفوها عن الدار البيضاء قبل عشرة أو عشرين سنة، حينما كان الجميع يعرفون بعضهم بعضا. 
في سنة 1893، كان عدد الفرنسيين قد بلغ 25 فردا، ورغم ما كان هذا الرقم قد عرفه من ارتفاع مستمر منذ 1885، إلا أنه كان بعيدا عن معادلة أرقام سنتي 1870 و 1878، بل أنه كان يعادل بالكاد أرقام سنة 1866. وعلى كل فإن عددهم لم يكن يشكل إلا 58#1605;ن مجموع الأوروبيين. 
وبدورهم، فإن أعداد الألمان، لم تعرف إلا زيادات طفيفة، حيث انحصرت في 15 فردا، أي ما يشكل 3.5 #1605;ن الجاليات الأوروبية. فيما ارتفعت أعداد الجالية البرتغالية من 14 فردا إلى 26 فردا، حيث صارت تمثل 6#1605;ن المجموع. أما أعداد الجالية البريطانية ومن جبل طارق، فقد نزلت إلى 60 فردا حيث تدحرجت نسبتهم إلى 14#1548; وبقيت أعداد الإيطاليين جد متدنية ولم تتجاوز نسبتهم 100D 
لكن الجالية التي عرفت تزايدا مشهودا، وكان لها أكبر الأدوار في الرفع من نسبة الأوروبيين طوال المرحلة المخصوصة بالدراسة والبحث، كانت هي الجالية الإسبانية، إذ كانت أعدادهم تقارب الثلاثمائة ( 297)، تمثل 69#1605;ن مجموع الأجانب بالدار البيضاء. 
وهناك مجموعة من الأسباب الكامنة وراء هذه الطفرة العددية، نجد في مقدمتها من دون شك، تلك المجهودات المتواصلة المبذولة في هذا الصدد من طرف الحكومة الإسبانية منذ سنتي 1885 و 1887. وانضافت إليها المجهودات المبذولة من طرف القبطان إ. بونيللي منذ 1889م. وهو خير من تضلع في السياسة الأفريقانية لإسبانيا. وله إسهامات ذؤوبة في الدعاية داخل الأوساط الإسبانية للمغرب، حيث كان يتنقل طولا وعرضا بين معظم مدن الساحل المغربي باحثا عن إمكانية إنشاء المراكز التجارية، واجتذاب مهاجرين إسبان إليها. 
 
مخاض سنوات 1895 – 1900: 
يظهر أن مدينة الدار البيضاء لا تستطيع الانخراط في مسلسل من التطور والنماء قوامه التوافق والانسجام. وقد كانت محدودية الشروط الاقتصادية والسياسية وهزالتها، قادرة على جعل بعض الأحداث والوقائع الضعيفة الأثر، ذات تأثير كبير عليها، وتفلح في إعاقة استمرار هذا النمو. وهكذا انصرمت ابتداء من سنة 1894، مدة الترخيص بتصدير مادة الشعير، ثم انضافت إليها مخلفات الجفاف مما قلص من إنتاجية القمح والدرة. وطوال سنتي 1894 و 1895م لم تزدد الساكنة الأوروبية بأكثر من ثلاثين فردا، حيث ارتفع الرقم الإجمالي إلى 450 أوروبيا وهو أعلى رقم سجل خلال هذا القرن. 
وتعتبر سنة 1895 سنة أزمة بامتياز، إذ بدأت الأمور بانتشار الجراد مما حطم الإنتاج الفلاحي عن آخره، ثم انضافت إليها وفاة السلطان المولى الحسن التي كانت بمثابة اندلاع الشرارة في الهشيم، وقد مرت الأسابيع الأولى من دون أية مشاكل، لكن الأمور سرعان ما تعقدت وانتشرت حركات التمرد في طول البلاد وعرضها. 
ويبدو مما جاء في رسالة القنصل البلجيكي بالمدينة ابتداء من شهر دجنبر (27/10/1895) أن انخراط القبائل المحيطة بالمدينة في حركات التمرد والتقاتل فيما بينها قد أدى إلى الإيقاف النهائي لما كانت تعرفه هذه المدينة من نشاط وازدهار في حركة مبادلاتها التجارية. بل أن موجة التمرد هذه كانت تدفع المستفيدين من القروض إلى التنصل من الوفاء بالتزاماتهم وهو ما كان يقوض وضعية عدد كبير من التجار. 
وعرفت سنة 1896م بدورها، أوضاعا صعبة صار يذكيها ظهور آفة الجراد من جديد، وهذا على الرغم من عودة الهدوء والاستقرار على إثر مرور المحلة السلطانية بالمنطقة. وقد أدى تدهور الأوضاع الأمنية في المناطق الداخلية إلى قيام الحكومة المخزنية بالحد من أية محاولة لتوسيع الحركة التجارية القائمة في المدن الساحلية نحوها، وذلك خوفا من ..... من جديد أمام سلسلة من الاحتجاجات ومطالب التعويض. ومثل ما كانت عليه الأوضاع قبل عشرين سنة تقريبا، فقد سجلت عودة وباء الكوليرا من جديد. وهو لم ينتشر بنفس الحدة التي برز بها سابقا، وذلك بفضل العمل الدءوب للأطباء الثلاثة الذين كانوا يتواجدون بالمدينة، إلا أنه ومع  
ويمكن القول، أن التراجع الملموس الذي بدأ في سنة 1896، قد بدأ يتسع خلال السنوات الموالية، حيث عرفت سنة 1896 مغادرة حوالي ثلاثة عشر أوروبيا، وارتفع هذا العدد إلى حوالي الخمسين سنة 1897، ثم استمر التراجع إلى غاية سنة 1898، إذ غادرها حوالي عشرة أفراد. وظهر أن الجاليات الأوروبية بالمدينة قد فقدت حوالي 65 فردا خلال ثلاث سنوات، أي 7/1 من أعدادها الإجمالية حيث عادت إلى مستوى الرقم المسجل خلال سنتي 1891 و 1892 . وقد كانت الجالية الإسبانية هي الأكثر تضررا من باقي مثيلاتها، وربما الوحيدة في مثل هذه الحالة. ويعود ذلك لعدة اعتبارات، منها أولا، ضعف مستوى الروابط التي كانت تجمعهم بالمدينة، وتدني المصالح الإسبانية بها.  
وعموما، فإنه بالقدر الذي كان يكفي لاجتذابهم مجرد انتشار بعض -الأخبار عن سنة فلاحية جيدة، وما تخلفه من حركة ورواج تجاري نشيط، فإنه كان يكفي كذلك لإجبارهم على المغادرة الجماعية، شيوع أجواء الركود والبطء في المشاريع. وغالبا ما كانوا يأخذون وجهة مدينة طنجة التي كانت أقل تأثرا بعوامل الأزمة، وتسمح حركات التفويت المخزنية المستمرة بها للأراضي بازدهار اقتصادي يشبه تقريبا مثيله بالدار البيضاء. وكان الإسبان عموما يستفيدون في طنجة من أعمال ومساعدات إحسانية تشرف عليها البعثات الفرنسيسكانية المستقرة بها، حيث توفر لهم مساكن بإيجار ............منذ سنة1887، ويترددون على المطاعم الشعبية، كما كانوا يستفيدون من خدمات جمعية القديس .....، وغيرها. وفي هذه الفترة بالذات، ارتفع عدد الألمان من 14 إلى 21 فردا.  
 
الدار البيضاء، في مطلع السنوات الأولى من القرن 20: 
يتبين أن عودة الأوضاع إلى ما كانت عليه سابقا، ستتطلب وقتا أطول، وهي الحالة شبيهة بوضعية الركود التجاري الإسباني التي عرفتها هذه البلاد بسبب تفاقم أزمة صرف النقد. غير أن ميناء الدار البيضاء سيتبوأ ابتداء من سنة 1902 المكانة الأولى من بين كافة الموانئ المغربية. وقد أكد أندري بيرنار في تقرير عن مهمته بالمغرب (..بأن الحركة التجارية بالمدينة تسجل أعلى أرقامها، وأنه ليس من النادر اصطفاف ما بين 8 إلى 10 سفن تنتظر رسوها بالميناء..) وأردف الكاهن لي موان مثمنا في تقريره سنة 1904:( بأن الدار البيضاء مدينة بالغة الأهمية، وأنها ربما تشكل الحاضرة الأهم تجاريا بالمقارنة مع كافة المدن الأخرى)، وبما أن هذه السنة قد عرفت محصولا فلاحيا فائقا، فقد كان عدد المراكب المصطفة في عرض البحر لانتظار دورها قصد شحن القمح يرتفع أحيانا إلى 17 سفينة. وبدورها فقد كانت أعداد السكان تتزايد بشكل سريع ومضطرد.  
وإلى هذا الحد، فإن المغرب الذي أصبح مركز اهتمام معظم البعثات القنصلية، وموضوعا لتناول عدد كبير من الجرائد والمجلات، بل مقصدا لأعداد متزايدة من الإرساليات السياحية، قد انخرط بامتياز ضمن دائرة اهتمام الطبقة الوسطى الأوروبية. ويتبين أن الساكنة الأوروبية في هذه المدينة، قد ارتفعت من 477 إلى 587 فردا ما بين سنتي 1901 و 1905، أي بزيادة حوالي 25 فردا كل سنة. وهي على كل حال أرقام متدنية ولا ترقى إلى ما كانت عليه ما بين سنتي 1890 و 1895. ويبقى أن رقم 570 من الأوروبيين الذي تم تقديمه سالفا لا يمكن التعامل معه إلا بصفة تقريبية. ويستحسن أن تضاف إليه أعداد اليهود المتجنسين وكذا المحميين. 
وخلال السنوات الأخيرة، بدأت تتضح تدريجيا الملامح الأساس لتوجهات هذه الحركة التي أشرنا إليها في تقريرنا حول كل مجموعة وطنية على حدة. وهكذا فقد ضلت أعداد المواطنين من أصول إنجليزية وجبل طارق جامدة ولم تعرف زيادات تذكر بل إن اتفاقية 1904 التي أكدت على ضمان الحريات الاقتصادية للجميع بالمغرب، كانت تحمل في طياتها نوعا من الفال السيئ للتجار الإنجليز ولا تخدم السير الحسن لمصالحهم بالمغرب. وقد أشار لهذه الوضعية على سبيل المثال الكاتب أفلالو في مؤلفه، وعبر فيه عما انتابهم من حسرة وفقدان للأمل. 
وعلى كل، فلم يكن عددهم المنحصر في 69 فردا يمثل أكثر من 12#1605;ن مجموع الأوروبيين، وخلال العشرين سنة السالفة وقع تناقص واضح في هذه النسبة حيث نزلت من 28#1587;نة 1885 إلى 16#1587;نة 1891 إلى 12#1587;نة 1905. وعلى العكس من ذلك، فقد استمرت أعداد الفرنسيين في الارتفاع بشكل ملموس، ويمكن القول أن العوامل التي كانت وراء انكماش الجالية الإنجليزية هي نفسها التي لعبت لصالح الفرنسيين. 
وكما جاء في إشارة للقنصل الإنجليزي سنة 1905، فإن التوسع الكبير في الحركة التجارية والملاحة البحرية إنما هو نتاج طبيعي لحركة توافد الفرنسيين بأعداد كبيرة على المغرب بعد الإتفاق الإنجليزي الفرنسي. وبدون احتساب ذوي الأصل الجزائري، فإن عددهم تضاعف ثلاث مرات عما كان عليه منذ ثلاث سنوات. وهم الآن 50 فردا أي ما يشكل 9#1605;ن المجموع العام. أما بالنسبة للإيطاليين، فإن أعدادهم استمرت في الارتفاع بشكل بطيء، لكنهم لم يتجاوزوا 22 فردا، أي 4#1605;ن المجموع. وهناك أيضا البرتغاليون، وقد كانوا 34 فردا، لكن الجالية الألمانية كانت الأكثر تزايدا، إذ ارتفع عدد مواطنيها من فردين سنة 1878 إلى 24 فردا سنة 1901 إلى 30 فردا سنة 1905. وعلى رأس القائمة، يشكل الإسبان النسبة الأكبر من هذه كل هؤلاء، حيث توافدوا بأعداد كبيرة ما بين سنتي 1903 و 1905، وصاروا يشكلون وقتها نسبة الثلثين من مجموع الأوروبيين. بل أن أعدادهم استمرت في الارتفاع سنة 1905 وأكثر منها سنة 1907 منجذبين إليها بواسطة الأشغال الجارية في موقع الميناء. 
وفي سنة 1904، أنجزت محاولتان لضبط هذه الأعداد، الأولى من طرف القنصل العام لبريطانيا في مدينة طنجة، بالاعتماد على تقارير البعثات القنصلية الأخرى بها. والثانية، من طرف الرحالة الألماني موهر، الذي قام برحلة إلى المغرب وأجرى تحقيقا في الموضوع بالاتصال مع التجار والقناصل الألمان. ومن الواضح أن الأرقام المقدمة من طرفه تكاد تنطبق على الأرقام التي قدمنا. في حين يظهر أن الأرقام المنتفخة المقدمة من طرف الإنجليز لا تعير اهتماما لضخامة نسبة المجنسين، وهو ما يفسر ارتفاع أعدادهم. ونقدم على سبيل المقارنة معطيات المحاولتين مع معطيات من إنجازنا:  
ويبدو أن التباين الأبرز بين ما نقترحه وما يقدمه الرحالة موهر، إنما يتعلق بعدد الألمان.، وحتى لو خصمنا منهم عدد السويسريين الذين جرت العادة إدراجهم ضمن الألمان، فإن الفرق يبقى شاسعا. وفي غياب الأرشيف القنصلي الألماني فإننا مع كامل الأسف سنبقى عاجزين عن ملامسة الحقيقة. وما علينا إلا أن نركن صاغرين إلى اعتماد رقم تقريبي، والحالة أن مبالغة الأرقام التقريبية المقدمة من طرف الإنجليز، تجعلنا نستنتج بأن رقم 41 فردا بالنسبة للألمان شيء مبالغ فيه. 
 
خصائص تطور الاستيطان الأوروبي. 
تدفعنا هذه النظرة السريعة حول المحطات الكبرى لحركة الاستيطان الأوروبي بمدينة الدار البيضاء إلى استخلاص عدد من الملاحظات. وتتمثل هذه في وجود ترابط وثيق ما بين حركة السكان وحركية النشاط التجاري. كما يعد التقارب الحاصل ما بين منحنيات التطور سواء بالنسبة لأعداد السكان أو لقيمة المبادلات التجارية أصدق تعبير عن هذه العلاقة. وما من شك في أن التجار كانوا يتطلعون لتحقيق أرباح طائلة من وراء أعمالهم، لكننا عندما نستثني تلك النخبة القليلة من قدماء هؤلاء المقاولين بالمدينة التي دأبت على ملازمة مواقف المثابرة والثبات، فإن البقية الباقية منهم سرعان ما كانت تغادر مواقعها نحو مدينة طنجة في غالب الأحيان، ولا يعاودون المجيء إلا بعد أن تظهر فرص أحسن.  
وقد كان لتزايد خطوط الملاحة البحرية دور كبير في تحفيز هذه الحركة ما بين المدن وذلك تبعا لحركية الرواج الاقتصادي. إلا أن أعداد المغادرين عند اشتداد الأزمات لم تكن في أي وقت من الأقوات تتجاوز أعداد الوافدين عند حلول الازدهار. ويترتب عن هذه التدفقات المتواصلة حدوث ترسبات طباقية يتباين سمكها وتتنوع مكوناتها، إذ تشمل بالأساس وافدين فرنسيين تنضاف إليهم جماعات من مواطني إنجلترا وجبل طارق وأخرى من البرتغال وألمانيا في أخر المطاف. ومع كل منها يكون التوافد الإسباني حاضرا بشكل بارز. 
ولا يغيب عن الأذهان، أنه إذا كان الازدهار التجاري والتزايد السكاني الأوروبي يسيران بشكل متوافق، فإن وثيرة هذا الأخير تتجاوز بشكل كبير مثيلتها لدى الأول. ومما ينبغي الوقوف عنده، أن المبادلات تضاعفت مرتين خلال ثلاثين سنة، بينما زادت خلالها أعداد الوافدين الأوروبيين خمس مرات. 
ويظهر أن التغييرات التي حصلت طوال نصف قرن بالنسبة لكل مجموعة وطنية من الوافدين على حدة، إنما كانت بالدرجة الأولى نتاجا لنمو أدوارها التجارية، لكن ذلك لم يمنع من استفادتها من العوامل السياسية. وخلالها ارتسمت معالم فترتين من المبادلات، ارتبطت الأولى بتصدير الأصواف والجلود والثانية بتصدير الحبوب، وقد كان اهتمام معظم التجار الفرنسيين ينصب على المواد الأولى بينما انصب اهتمام التجار الإنجليز وجبل طارق ثم الألمان على المواد الثانية. 
أما فيما يتعلق بالأزمة التي صارت تعاني منها تجارة الصوف المغربية فإنها كانت ناتجة عن تزايد المنافسة الأسترالية لكنها كانت في الواقع جزءا من أزمة عالمية. وكانت قيمتها تتراجع سنة بعد سنة منذ أواخر القرن 19 وهو ما صار يفسر تراجع مكانة الفرنسيين. 
وكان هؤلاء قد أنشئوا ملتقى الدار البيضاء لهذه المادة إبان أزمة انهيار الإنتاج لسنوات 1850، لكنهم سيتخلون عنها إبان الأزمة المترتبة عن تضخم الإنتاج. ولن يعود لهذه الجالية اعتبارها إلا من خلال تبنيها لأسس مصالح واشتغالات مغايرة، حيث ستتميز هذه بمواصفات جديدة سواء في تركيبتها أو في مجالات عملها. ويوضح الجدول التالي حول نسب الجاليات المتواجدة مدى أهمية الوازع الاقتصادي ـ السكاني بالنسبة للساكنة الأوروبية. 
وهناك ملاحظة أخرى لا ينبغي إغفالها وتتعلق بمدينة طنجة، فإنها على الرغم من مجاورتها لإسبانيا وكثافة التواجد الدبلوماسي بها إلا أن الساكنة الأوروبية بالدار البيضاء تبقى هي الأسرع تزايدا وانتشارا. ويوضح الجدول التالي مختلف الأرقام المؤقتة التي توصلنا إليها بالنسبة للمدن والمراسي المغربية الأخرى وهي منحصرة في سنتي 1904 و 1905. 
 
1870 - 1880 1904 - 1905 النسب التقريبية للتطور 
العرائش 70 إلى 80 125 إلى 135 90 D 
الرباط 25 إلى 30 60 إلى 70 150D 
الجديدة 130 إلى 140 250 إلى 300 100D 
آسفي 60 إلى 70 120 إلى 240 150D 
الصويرة 160 إلى 180 230 إلى 250 90D 
الدارالبيضاء 165 535 340D 
المجموع 610 إلى 665 1320 إلى 1430  
#1575;لدارالبيضاء 27 إلى 25 0.5 37.50D 
 
ومهما عظم شأن هامش الخطأ القائم في هذه التقديرات، فإن التطور السكاني بالنسبة للجاليات الأوروبية في مدينة الدار البيضاء لا يمكن التشكيك فيها، وهو في آخر المطاف يترجم ويفسر تطور أدوارها  
 
 

(c) mohamed belarbi - Créé à l'aide de Populus.
Modifié en dernier lieu le 18.07.2009
- Déjà 7489 visites sur ce site!